أحكام فقهيَّة أثناء الخطبة
أولاً: أحكام فقهية بالمصلين
1- تخطي الرقاب
كَرِه أهلُ العلم تخطي الرقاب يوم الجمعة وذلك لما رواه أهل السنن عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه "أنه جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي عليه السلم يخطب فقال له: اجلس فقد آذيت وآنيت[ [1]". بمعنى تأخرت عن التبكير لِتَصِل للصفِ الأول ويستثنى من هذا الأمر إذا جلس في مكان قريب وبدت له حاجة أو انتقض وضوءه فله الخروج وتخطي رقاب الناس لذلك, فإذا رجع فله الحق في مكانِهِ الذي قام منه استدلالاً بحديث رسول الله (ص) "من قام من مجلسه ثم رجع فهو أحق به". رواه البخاري.
فائدة: ليس أن يقيم إنساناً ويجلس مكانه سواء كان المكان راتباً لشخصٍ يجلس فيه أو موضع حلقة لمن يحدِّث فيها أو حلقةِ الفقهاء التي يتذاكرون فيها. ويشهد لهذا الأمر ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "نهى رسول الله (ص) أن يقيم الرجل –يعني أخاه- من مقعده ويجلس فيه [2]" لأن المجلس بيت الله والناس فيه سواء.
2- صلاة ركعتين "تحية المسجد" والإمام يخطب
يجب على من دخل المسجد أن يصلي ركعتين وهما واجب على الرأي الأرجح وذلك لقوله عليه السلام "إذا دخل أحدكم فلا يجلس حتى يركع ركعتين[ [3]" ويؤكد ذلك في خلال خطبته لما أخرجه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: "دخل رَجُلٌ يوم الجمعة والنبي (ص) يخطب فقال له: أصليت. قال: لا قال: قم وصلِّ ركعتين [4 ] ".
وفي رواية أخرى لمسلم أنَّهُ عليه السلام قال "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة, والإمام يخطب, فليركع لله ركعتين وليتجوَّز فيهما [5]".
أما ما روي عن الإمام مالك بالنهي عن الصلاة والإمام يخطب فلعلَّه لم تصله هذه الأحاديث حيث أن هذه الأحاديث هي التي ثبتت بل إن الإمام الشافعي يقول "نقول ونأمر من دخل المسجد, والإمام يخطب, والمؤذن يؤذِّن, ولم يصلِّ ركعتين, أن يصليهما, ونأمره أن يخففهما, فإنَّه روي في الحديث أن النبي (ص) أمر بتخفيفهما [6]" وقد قال البغوي في شرح السنة ص4/266" وهذا مذهب الحسن وابن عيينه والشافعي وأحمد وإسحاق وقاله أيضاً النووي في شرح مسلم ص6/164 وننبه على أن الأحناف قد أخطأوا بالاستدلال بحديث "إذا صعد الإمام فلا صلاة ولا كلام [7]" فهو حديث باطل لأنَّ أحد رواته وهو أيوب بن نهيك منكر الحديث [8] ومنه نعرف مدى جهل وخطأ بعض الخطباء اليوم عندما يأمرون الداخلين للمسجد بالجلوس أثناء الخطبة عندما يبدأون بصلاة تحية المسجد.
3- تحوُّل من غَلَبَهُ النعاس من مكانٍ لآخر حتى يذهب النعاس يُنْدَبُ للمصلِّي إذا غَلَبَهُ النعاس, وهو في مكانٍ في المسجد التحوُّلْ منه إلى آخر, فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال" "إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة, فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيرهِ [9] ".
وحِكْمَةُ الأمرُ بالتحول أن الحركة تذهب النعاس, أو أن المكان الذي أصابه فيه النوم فيه شيطان [10] ولا يقال: عن الانتقال من وقت الخطبة, عملٌ منهيٌ عنه لما فيه من الاشتغال عن سماع الخطبة المأمور به, فلا يَشْمَلُه الحديث, لأن انتقال الناعس يؤدي إلى ذهاب نعسه, فينتبه للخطبة, ولذلك أمره الشارع الحكيم بالتحول.
ثانياً: أحكام فقهية تختص بالكلام ُناء الخطبة
أ. الكلام بين المصلين
إذا كان الإمام يخطب فإنَّه يَحْرُم على المستمعين الكلام حيث أن الإنصات واجب بقوله عليه السلام "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة, والإمام يخطب فقد لغوت[11] " ولا يجوز أيضاً أن يَطْلُبْ مُصَلِّ من مصلِّ آخر عِلْماً فهو لغو.
ولتوضيح معنى لغوت هالك أخي المسلم هذا البحث المختصر:
قال النضر بن شميل:
معنى لغوت: خِبْتَ مِنَ الأجرِ وقيل: "بَطُلَت جمعتم, وقيل صارت جمعتك ظهراً[12]".
أما المعنى الأول والثاني فإنه يشهد له:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله (ص) يخطب يوم الجمعة, إذ قال أبو ذر لأبيِّ بن كعب: متى أنزلت هذه السورة فلم يجبه, فلما قضى صلاته, قال له: مالك من صلاتِكَ إلا ما لغوت, فأتى أبو ذرِّ النبي (ص) فذكر ذلك له فقال صدق أبيّ [13] ".
2. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ص) قال: "يحضر الجمعة ثلاثة: عز وجل حضرها يلغو, فذاك حظَّهُ منها, ورجلٌ حضرها بدعاء, فهو رجل دعا الله عز وجل, فإن شاء أعطاه, وإن شاء منعه, ورجل حضرها بإنصاتٍ وسكوت, ولم يتخط رقبة مسلم, ولم يؤذِّ أحداً, فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام, فإن الله يقول: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [14] ".
أما المعنى الثالث أن الجمعة تنقلب إلى ظهر فيشهد له عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما "... ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما, ومن لغى أو تخطى كانت له ظهراً [15] ".
وقد جاء في التعليق على فقه الحديث في صحيح الترغيب ص375 "وهذا القول الأخير – وقريب منه الذي قبله – هو الذي نعتمده, لأن خير ما فُسِّر به حديثه (ص), إنما هو كلامه, وقد ثبت عنه انه قال: "ومن لغى وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً [16 ]" وهو الذي جزم به الإمام ابن خزيمة في صحيحه 3/ص155 ولا ينافيه قول أُبي الآتي بعده "مالك من صلاتِكَ إلا ما لغوت" وتأييده (ص) إياه بقوله "صدق أُبيّ" فإن المعنى نفي فضيلة صلاة الجمعة, وليس نفي الجمعة من أصلها, على حد قولهم: "لا فتى إلا علي" وذلك لا يستلزم نفي الفضيلة من أصلها, وإنما نفي بعضها, وما بقي من الفضل يساوي فضيلة صلاةِ الظهر, لقوله: "كانت له ظهراً" وهو (ص) قال ذلك فيمن لغى وتخطى, فمن لغى فقط, كانت له ظهراً من باب أولى كما هو ظاهر لا يخفى والحمد لله وراجع صحيح ابن خزيمة ص155 (الباب-72)" انتهى التعليق.
وأيضاَ قال الإمام الشافعي "وأحبُّ لكل من حضر الخطبة أن يستمع لها وينصت, ولا يتكلم من حين أن يتكلم من حين ان يتكلم الإمام حتى يفرغ من الخطبتين معاً. ولا بأس أن يتكلم والإمام على المنبر, والمؤذنون يؤذنون... حتى قال (وإن تكلم رجُلٌ والإمام يخطب, لم أحب له ذلك, ولم يكن عليه إعادةِ الصلاة [17]).
وفي النهاية
"فإن قول القائل: أنصِتْ. لأبعَدْ لغةً من اللغو, لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومع ذلك سماه عليه الصلاة والسلام لغواً لا يجوز, وذلك من باب ترجيح الأهم- وهو الإنصات لموعظةِ الخطيب- على المهم, وهو الأمر بالمعروف في أثناء الخطبة, وإذا كان الأمر كذلك; فكل ما كان في مرتبة الأمر بالمعروف فحكمه حكم الأمر بالمعروف; فكيف إذا كان دونه في المرتبة؟ فلا شك أنه حينئذٍ بالمنع أولى وأحرى, وهي من اللغو شرعاً".
أنظر الأجوبة النافعة- الطبعة الأولى ص106
ب. الكلام بين المصلين والخطيب وأنواعه
1. سؤال أحد المصلين للخطيب
روى البيهقي في سنًنِه الكبرى عن أنس بن مالك قال "دخل رجلٌ المسجدً ورسول الله (ص) عل المنبر يوم الجمعة فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أنِ اسكت فسأله ثلاث مرات كل ذلك يشيرون إليه أنِ اسكت فقال له رسول الله (ص) عند الثالثة "ويحك ماذا أعددت لها؟ فقال حب الله ورسوله فقال إنك مع من أحببت" وإسناده صحيح [18 ]. ]
وجه الدلالة: الكلام في هذه الحالة ليس حراماً وإلا لأنكر عليه الصلاة والسلام على ذلك الرجل سؤاله, بل أجابه عليه السلام بعد الثالثة وهو الذي دعا بعض العلماء أن يحمل الكلام على الكراهة.
2. الإنكار على الخطيب في أمرٍ فِعْلُهُ مخالِفْ
وهذا يشهد له ما رواه مسلم عن حصين عن عمارة بن رؤيبة قال: رأي بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه. فقال: قبَّح الله هاتين اليدين. لقد رأيت رسول الله (ص) ما يزيد على أن يقول بيده هكذا, وأشار بإصبعه المسبِّحة [19] . ]
ج. الكلام للإمام
للإمام أن يقطع خطبته فجأة وأن يتكلم لأمرٍ قد يحدث بصورةٍ طارئة, فقد يرى داخلاً ولم يصلِّ تحيَّةً المسجد فله أن يأمره بالقيام لصلاةِ تحيَّةِ المسجد اقتداءً بالرسول (ص) وذلك لما رواه البخاري ومسلم عن سليك ولقد مرَّ معنا الحديث عن الكلام عن وجوب صلاة تحية المسجد والإمام يخطب.
د. الكلام أثناء جلوس الإمام
فعن موسى بن طلحة قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخبر الناس, يسألهم عن أخبارهم وأسعارهم [20 ]" ويؤكده أيضاً جريانُ العَمَلْ عليه في عهد عمر رضي الله عنه كما قال ثعلبة بن مالك:
"أنهم كانوا يتحدثون حين يجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر حتى يَسْكُتْ المؤذن, فإذا قام عمر على المنبر, لم يتكلم أحد حتى يقضي خطبتيه كلتيهما [21 ]" فبذلك ثبت أن كلام الإمام هو الذي يمنع كلام المصلين أما الكلام بين الخطبتين فالرأي الراجح أنَّه غير جائز حيث أن الأمر بالإنصات منذ بداية الخطبة حتى الانتهاء من الثانية والله أعلم حيث أنه موافق لما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه.
[ [1] رواه أبو داوود, وصححه الألباني في صحيح أبو داوود 1/989
[ [2] ] رواه مسلم- مختصر صحيح مسلم للمنذري رقم 248
[ [3] ] رواه مسلم أنظر مختصر صحيح مسلم 248
[ [4] رواه مسلم عن جابر (3/875) باب الجمعة, ص428
[5] ] رواه مسلم. انظر شرح صحيح مسلم 3/875-59 باب التحية والإمام يخطب
[ [6] الأم للشافعي (1/227)
[ [7] ] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة رقم 87
[ [8] ] أنظر الجرح والتعديل (1/1/259) وفتح الباري (2/409)
[ [9] رواه أبو داوود وأحمد وصححه الألباني في صحيح أبو داوود 1/99
[ [10] الدين الخالص لصديق حسن خان (4/145-146)
[ [11] [ رواه مسلم- مختصر صحيح مسلم رقم 419
[ [12] أنظر فتح الباري (2/414)
[ [13] رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم 912 وصحيح الترغيب 722
[ [14] رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح تحت رقم 7002 المجلد الثاني
[ [15] رواه ابن خزيمة بسند حسن رقم 3/1810 وصححه الألباني في صحيح أبي داوود 1/374
[ [16] صحيح الترغيب والترهيب رقم 721
[ [17][ أنظر الأم للإمام الشافعي 1/2330
[ [18] السنن الكبرى للبيهقي باب الإشارة بالسكوت دون التكلم باب الجمعة جزء 3 ص221 وقال عن ابن حجر البوطامي أن إسناده صحيح
[ [19] مختصر صحيح مسلم للمنذري رقم 414. وفي المسند (4/136) ". . عن حصين بن عبد الرحمن السلمي, قال: كنت إلى جنب عمارة بن رؤيبة, وبشر يخطبنا فلما دعا رفع يديه فقال عمارة..".
[ [20] المسند جزء (1) حديث 540 ص496 وهو ذو إسناد صحيح
[ [21] سلسة الأحاديث الضعيفة – الطبعة الجديدة حديث رقم 87 ص